فصل: المسألة الثالثة‏:‏ إذا بيع حائط نخل بعد أن أبر فثمرته للبائع إلا أن يشترطها المبتاع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


المسألة الثالثة‏:‏ إذا بيع حائط نخل بعد أن أبر فثمرته للبائع إلا أن يشترطها المبتاع

إن اشترطها المبتاع فهي له، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏من ابتاع نخلًا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع الذي باعها إلا أن يشترطها المبتاع‏"‏ متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما‏.‏ فإن بيعت النخل قبل التأبير فالثمرة للمشتري، واختلف في استثناء البائع لها، فمشهور مذهب مالك أنها كالجنين لا يجوز للبائع اشتراطها ولا استثناؤها بناء على أن المستثني مشتري خلافًا لتصحيح اللخمي جواز استثناء البائع لها بناء على أن المستثنى مبقى وجواز استثنائها هو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله تعالى‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ وهو أظهر عندي لأن كون المستثني مبقي أظهر من كونه مشتري لأنه كان مملوكًا للبائع، ولم يزل على ملكه لأن البيع لم يتناوله لاستثنائه من جملة المبيع كما ترى‏.‏ وهذا الذي ذكرنا في هذه المسألة هو الحق إن شاء الله تعالى، فما أبر فهو للبائع إلا بشرط، وما لم يؤبر فهو للمشتري إلا بشرط خلافًا لابن أبي ليلى القائل‏:‏ هي للمشتري في الحالين لأنها متصلة بالأصل اتصال خلقة فكانت تابعة له كالأغصان‏.‏ وهذا الاستدلال فاسد الاعتبار لمخالفته لحديث ابن عمر المتفق عليه المذكور آنفًا، فقد صرح فيه النَّبي صلى الله

عليه وسلم بأن البيع إن كان وقع بعد التأبير فالثمرة للبائع، وخلافًا للإمام أبي حنيفة والأوزاعي رحمهما الله تعالى في قولهما‏:‏ إنها للبائع في الحالين‏.‏ والحديث المذكور يرد عليهما بدليل خطابه أعني مفهوم مخالفته لأن قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏من ابتاع نخلًا قد أبرت‏"‏ الحديث يفهم منه أنها إن كانت غير مؤبرة فليس الحكم كذلك وإلا كان قوله ‏"‏قد أبرت‏"‏ وقوله ‏"‏بعد أن تؤبر‏"‏ في بعض الروايات لغوًا لا فائدة فيه فيتعين أن ذكر وصف التأبير ليحترز به عن غيره، ومعلوم أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله لا يقول بحجته مفهوم المخالفة، فالجاري على أصوله أن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور نص على حكم الثمرة المؤبرة وسكت عن غير المؤبرة فلم يتعرض لها أصلًا‏.‏ وإن أبر بعض الثمرة التي بيعت أصولها وبعضها الآخر لم يؤبر فمذهب مالك أنه إن كان أحدهما أكثر فالأقل تابع له، وإن استويا فلكل حكمه، فالمؤبر للبائع وغيره للمشتري‏.‏ ومذهب الإمام أحمد أن لكل واحد من المؤبر وغيره حكمه، وأبو حنيفة لا فرق عنده بين المؤبر وغيره فالجميع عنده للبائع إلا إذا اشترطه المبتاع، ومذهب الشافعي رحمه الله الصحيح من الخلاف أن ما لم يؤبر تبع للمؤبر فيبقى الجميع للبائع دفعًا لضرر اختلاف الأيدي‏.‏ واعلم أن استثناء بعض الثمرة دون بعض يجوز في قول جمهور العلماء وفاقًا لأشهب من أصحاب مالك وخالف بن القاسم فقال‏:‏ لا يجوز استثناء بعض المؤبرة‏.‏ وحجة الجمهور أن ما جاز استثناء جميعه جاز استثناء بعضه، وحجة ابن القاسم أن النص إنما ورد في اشتراط الجميع‏.‏

واعلم أن أكثر العلماء على أن الثمرة المؤبرة التي هي للبائع إن لم يستثنها المشتري فإنها تبقى إلى وقت الانتفاع المعتاد بها ولا يكلفه المشتري بقطعها في الحال، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد‏.‏ وخالف في ذلك أبو حنيفة قائلًا‏:‏ يلزم قطعها في الحال وتفريغ النخل منها لأنه مبيع مشغول بملك البائع فلزم نقله وتفريغه منه كما لو باع دارًا فيها طعام أو قماش له‏.‏ واحتج الجمهور بأن النقل والتفريغ للمبيع على حسب العرف والعادة كما لو باع دارًا فيها طعام لم يجب نقله على حسب العادة في ذلك وهو أن ينقله نهارًا شيئًا بعد شيء ولا يلزمه النقل ليلًا ولا جمع دواب البلد لنقله، كذلك ها هنا يفرغ النخل من الثمرة في أوان وهو وقت الجذاذ، قاله ابن قدامة في المغني‏.‏ * * *

المسألة الرابعة‏:‏ لو اشتريت النخل وبقيت الثمرة للبائع فهل لمشتري الأصل أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها‏؟‏

أولًا‏:‏ اختلف العلماء في ذلك، فمشهور مذهب مالك جواز ذلك لأن لها عنده حكم التبعية وإن أفردت بالعقد، وعنه في رواية أخرى‏:‏ لا يجوز ذلك‏.‏ وللشافعية والحنابلة وجهان بالمنع والجواز‏.‏ قال ابن قدامة في المغني، ونسب القرطبي للشافعي وأبي حنيفة والثوري وأهل الظاهر وفقهاء الحديث القول بمنع ذلك ثم قال‏:‏ وهو الأظهر من أحاديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها‏.‏ * * *

المسألة الخامسة‏:‏ إذا اشتريت الثمرة وحدها دون الأصل قبل بدو صلاحها فلها ثلاث حالات‏:‏

الأولى‏:‏ أن يبيعها بشرط التبقية إلى وقت الجذاذ، وفي هذه الحالة لا يصح البيع إجماعًا‏.‏

الثانية‏:‏ أن يبيعها بشرط قطعها في الحال، وفي هذه الحالة يصح البيع إجماعًا‏.‏ الثالثة‏:‏ أن يبيعها من غير شرط تبقية ولا قطع بل سكتا عن ذلك وعقدا البيع مطلقًا دون شرط، وفي هذه الحالة لا يصح البيع عند جمهور العلماء منهم مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى‏.‏ وأجاز أبو حنيفة رحمه الله البيع في هذه الحالة وأوجب قطع الثمرة حالًا، قال‏:‏ لأن إطلاق العقد يقتضي القطع فهو كما لو اشترطه، وحجة الجمهور إطلاق النصوص الواردة بذلك عنه صلى الله عليه وسلم‏.‏ من ذلك ما أخرجه الشيخان والإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع، وفي لفظ نهى عن بيع النخل حتى تزهو وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه‏.‏ ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ ‏"‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى تزهى، قيل وما زهوتها‏؟‏ قال تحمار وتصفار‏"‏ ومن ذلك أيضًا ما رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏

‏"‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبايعوا الثمار حتى يبدو صلاحها‏"‏ ومن ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه عن أنس رضي الله عنه ‏"‏أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد‏"‏‏.‏

فإطلاقات هذه النصوص ونحوها تدل على منع بيع الثمرة قبل بدو صلاحها في حالة الإطلاق وعدم الاشتراط كما تقدم‏.‏

وقرأ هذه الآية الكريمة جماهير القراء ‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ‏}‏ بصفة الجمع وقرأها حمزة ‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ‏}‏ بالإفراد والألف على قراءة حمزة للجنس ولذلك صح الجمع في قوله ‏{‏لَوَاقِحَ‏}‏ قال أبو حيان في البحر المحيط ومن قرأ بإفراد الريح فعلى تأويل الجنس كما قالوا أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض اهـ‏.‏ والعلم عند الله تعالى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ‏}‏‏.‏ بين تعالى في هذه الآية الكريمة عظيم منته بإنزال الماء من السماء وجعله إياه عذبًا صالحًا للسقيا وبين ذلك أيضًا في مواضع أخر كقوله ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ وقوله ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

والتحقيق أن أسقى وسقى لغتان معناهما واحد كأسرى وسرى والدليل على ذلك القراءتان السبعيتان في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ‏}‏ فإنه قرأه بعض السبعة بضم النون من أسقى الرباعي وقرأه بعضهم بفتحها من سقى الثلاثي ويدل على ذلك أيضًا قول لبيد‏:‏ سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ‏}‏‏.‏ فيه للعلماء وجهان من التفسير كلاهما يشهد له قرآن الأول‏:‏ أن معنى ‏{‏وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ‏}‏ أي ليست خزائنه عندكم بل نحن الخازنون له ننزله متى شئنا وهذا الوجه تدل عليه آيات كقوله ‏{‏وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ونحو ذلك من الآيات، الوجه الثاني‏:‏ أن معنى ‏{‏وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ‏}‏ بعد أن أنزلناه عليكم أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والعيون والغدران بل نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة ويدل لهذا الوجه قوله تعالى ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ‏}‏ وقوله‏:‏

‏{‏أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏ بين في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي يحيي ويميت وأوضح ذلك في آيات كثيرة كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ‏}‏ وقوله ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ‏}‏ وبين في مواضع أخر أنه أحياهم مرتين وأماتهم مرتين كقوله‏:‏ ‏{‏قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ‏}‏ والإماتة الأولى هي كونهم نطفًا وعلقًا ومضغًا والإماتة الثانية هي موتهم عند انقضاء آجالهم في الدنيا والإحياءة الأولى نفخ الروح فيهم وإخراجهم أحياء من بطون أمهاتهم والإحياءة الثانية بعثهم من قبورهم أحياء يوم القيامة وسيأتي له إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ‏}‏‏.‏ بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه الوارث ولم يبين الشيء الذي يرثه وبين في مواضع أخر أنه يرث الأرض ومن عليها كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً‏}‏ ومعنى ما يقول أي نرثه الذي يقول إنه يؤتاه يوم القيامة من المال والولد كما ذكره الله عنه في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً‏}‏ ومعنى كونه يرث الأرض ومن عليها أنه يبقى بعد فناء خلقة متصفًا بصفات الكمال والجلال يفعل ما يشاء كيف يشاء

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ‏}‏‏.‏ بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه خلق أبانا آدم من صلصال من حمأ مسنون والصلصال الطين اليابس الذي يصل أي يصوت من يبسه إذا ضربه شيء ما دام لم تمسه النار فإذا مسته النار فهو حينئذ فخار، وأصل الصليل والصلصلة واحد، والفرق بينهما أنك إذا توهمت في الصوت مدًا فهو صليل، وإذا توهمت فيه ترجيعًا فهو صلصلة، والحمأ‏:‏ الطين الأسود المتغير والمسنون‏.‏ قيل‏:‏ المصور من سنة الوجه وهي صورته، ومنه قول ذي الرمة‏:‏ تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما سأله نافع بن الأزرق عن معنى المسنون وأجابه بأن معناه المصور قال له‏:‏ وهل تعرف العرب ذلك‏؟‏ فقال له ابن عباس‏:‏ نعم، أما سمعت قول حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وهو يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أغر كأن البدر سنة وجهه جلا الغيم عنه ضوءه فتبددا

وقيل المسنون المصبوب المفرغ أي أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها وقبل المسنون المنتن وقال بعض العلماء المسنون الأملس قال ومنه قول عبد الرحمن بن حسان‏:‏ ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء تمشي في مرمر مسنون

أي أملس صقيل قاله ابن كثير وقال مجاهد الصلصال هو المنتن وما قدمنا هو الحق بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ‏}‏ إذا عرفت هذا فاعلم أن الله جل وعلا أوضح في كتابه أطوار هذا الطين الذي خلق منه آدم فبين أنه أولًا تراب بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات ثم أشار إلى أن ذلك التراب بل فصار طينًا يعلق بالأيدي في مواضع أخر كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ‏}‏ وقوله ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات وبين أن ذلك الطين أسود وأنه متغير بقوله هنا ‏{‏مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ‏}‏ وبين أيضًا أنه يبس حتى صار صلصالًا أي تسمع له صلصلة من يبسه بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ‏}‏ والعلم عند الله تعالى‏.‏

{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏

وقوله تعالى ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ‏}‏‏.‏ بين في هذه الآية الكريمة أن إبليس أبى أن يسجد لآدم وبين في مواضع أخر أنه تكبر عن امتثال أمر ربه كقوله في البقرة‏:‏ ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ‏}‏ وقوله في ص? ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏ وأشار إلى ذلك هنا بقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ‏}‏‏.‏ كما تقدمت الإشارة إليه‏.‏ قوله تعالى ‏{‏قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ‏}‏‏.‏ بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه سأل إبليس سؤال توبيخ وتقريع عن الموجب لامتناعه من السجود لآدم الذي أمره به ربه جل وعلا وبين أيضًا في الأعراف وص أنه وبخه أيضًا بهذا السؤال قال في الأعراف ‏{‏قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ‏}‏ وقال في ص?‏:‏ ‏{‏قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي‏}‏ وناداه باسمه إبليس في الحجر وص? ولم يناده به في الأعراف‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ‏}‏‏.‏ هذا القول الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن إبليس لعنه الله أنه لم يكن ليسجد لبشر مخلوق من الطين مقصوده به أنه خير من آدم لأن آدم خلق من الطين وهو خلق من النار كما يوضحه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ‏}‏‏.‏ بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أمر إبليس بالخروج من الجنة مؤكدًا أنه رجيم وبين في الأعراف أنه خروج هبوط وأنه يخرج متصفًا بالصغار والذل والهوان بقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ‏}‏‏.‏ بين في هذه الآية الكريمة أن اللعنة على إبليس إلى يوم الدين وصرح في ص? بأن لعنته جل وعلا في إبليس إلى يوم الدين بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ وقد قدمنا في الفاتحة بيان يوم الدين‏.‏ قوله تعالى ‏{‏قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي‏}‏‏.‏ قال بعض العلماء هذا قسم من إبليس بإغواء الله له على أنه يغوي بني آدم إلا عباد الله المخلصين ويدل له أنه أقسم بعزته تعالى على ذلك في قوله ‏{‏قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ وقيل الباء في قوله ‏{‏فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي‏}‏ سببية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏ ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبليس أخبر أنه سيبذل جهده في إضلال بني آدم حتى يضل أكثرهم وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله‏:‏ ‏{‏لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ‏‏ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً‏}‏ وهذا قاله إبليس قبل أن يقع ظنًا منه أنه يتمكن من إضلال أكثر بني آدم، وقد بين تعالى أنه صدق ظنه هذا بقوله ‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ وكل آية فيها ذكر إضلال إبليس لبني آدم بين فيها أن إبليس وجميع من تبعه كلهم في النار كما قال هنا ‏{‏وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ‏}‏، وقال في الأعراف‏:‏ ‏{‏قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ وقال في سورة بني إسرائيل‏:‏ ‏{‏قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً‏}‏ وقال في ص?‏:‏ ‏{‏قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏

{‏إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِ بْراَهِيمَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ‏}‏‏.‏ ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الشيطان لما أوعد بأنه سيضل أكثر بني آدم استثنى من ذلك عباد الله المخلصين معترفًا بأنه لا قدرة له على إضلالهم ونظيره قوله في ص? أيضًا ‏{‏قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ‏}‏ وعباد الله المخلصون هم المرادون بالاستثناء في قوله في بني إسرائيل ‏{‏لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً‏}‏ وقوله في سبأ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ وهم الذين احترز منهم بقوله ‏{‏وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ‏}‏ وبين تعالى في مواضع أخر أن الشيطان لا سلطان له على أولئك المخلصين كقوله ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ‏}‏ وقوله ‏{‏وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏المخلصين‏}‏ قرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو بكسر اللام اسم فاعل وقرأه نافع والكوفيون بفتح اللام بصيغة اسم المفعول‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ‏}‏‏.‏ بين فيه هذه الآية الكريمة أن المتقين يوم القيامة في جنات وعيون، ويقال لهم يوم القيامة‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ‏}‏ وذكر في مواضع أخر صفات ثوابهم وربما بين بعض تقواهم التي نالوا بها هذا الثواب الجزيل كقوله في الذاريات‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ‏}‏ وقوله في الدخان‏:‏

{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ وقوله في الطور‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ‏}‏ وقوله في القمر‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ‏}‏ وقوله في المرسلات‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن الشيء الذي له أوصاف متعددة في القرآن نبين أوصافه عند ذكر بعضها كما تقدم مثاله مرارًا وكما هنا‏.‏

والمتقي اسم فاعل الاتقاء وأصل مادة الاتقاء ‏(‏و ق ي‏)‏ لفيف مفروق فاؤه واو وعينه قاف ولامه ياء فدخله تاء الافتعال فصارت وقي أو تقي فأبدلت الواو التي هي فاء الكلمة تاء للقاعدة المقررة في التصريف أن كل واو هي فاء الكلمة إذا دخلت عليها تاء الافتعال يجب إبدالها أعني الواو تاء وإدغامها في تاء الافتعال نحو اتصل من الوصل واتزن من الوزن واتحد من الوحدة واتقى من الوقاية وعقد هذه القاعدة ابن مالك في الخلاصة بقوله‏:‏

ذو اللين فاتا في افتعال أبدلا وشذ في ذي الهمز نحو ائتكلا

والاتقاء في اللغة‏:‏ اتخاذ الوقاية دون المكروه ومنه قول نابغة ذبيان‏:‏ سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد

يعني استقبلتنا بيدها جاعلة إياها وقاية تقيها من أن ننظر إلى وجهها لأنها تستره بها وقول الآخر‏:‏ فألقت قناعًا دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم

والتقوى في اصطلاح الشرع‏:‏ هي اتخاذ الوقاية دون عذاب الله وسخطه وهي مركبة من أمرين هما امتثال أمر الله واجتناب نهيه‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ‏}‏‏.‏ بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه نزع ما في صدور أهل الجنة من الغل في حال كونهم إخوانًا وبين هذا المعنى في الأعراف وزاد أنهم تجري من تحتهم الأنهار في نعيم الجنة وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ‏}‏‏.‏ بين في هذه الآية الكريمة أن المتقين الذين هم أهل الجنة يوم القيامة يكونون على سرر وأنهم متقابلون ينظر بعضهم إلى وجه بعض ووصف سررهم بصفات جميلة في غير هذا الموضع منها أنها منسوجة بقضبان الذهب وهي الموضوعة قال في الواقعة‏:‏

‏{‏ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ‏}‏ وقيل الموضوعة المصفوفة كقوله‏:‏ ‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ‏}‏ ومنها أنها مرفوعة كقوله في الغاشية‏:‏ ‏{‏فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ‏}‏ وقوله في الواقعة‏:‏ ‏{‏وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ‏}‏‏.‏ بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يمسهم فيها نصب وهو التعب والإعياء وقوله نصب نكرة في سياق النفي فتعم كل نصب فتدل الآية على سلامة أهل الجنة من جميع أنواع التعب والمشقة وأكد هذا المعنى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ‏}‏ لأن اللغوب هو التعب والإعياء أيضًا وقد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ‏}‏‏.‏ بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يخرجون منها وأكد نفي إخراجهم منها بالباء في قوله ‏{‏بِمُخْرَجِينَ‏}‏ فيهم دائمون في نعيمها أبدًا بلا انقطاع‏.‏ وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِ بْراَهِيمَ‏}‏‏.‏ بين في مواضع أخر أن ضيف إبراهيم المذكورين في هذه الآية أنهم ملائكة كقوله في هود‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ‏}‏ كما تقدم وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

{‏إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ‏}‏‏.‏ لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة هل رد إبراهيم السلام على الملائكة أو لا لأنه لم يذكر هنا رده السلام عليهم وإنما قال عنه إنه قال لهم إنا منكم وجلون وبين في هود والذاريات أنه رد عليهم السلام بقوله في هود ‏{‏قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ‏}‏ وقوله في الذاريات‏:‏ ‏{‏قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ‏}‏ وبين أن الوجل المذكور هنا هو الخوف لقوله في القصة بعينها في هود‏:‏ ‏{‏فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ‏}‏ وقوله في الذاريات‏:‏ ‏{‏فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ‏}‏‏.‏ وقد قدمنا أن من أنواع البيان في هذا الكتاب بيان اللفظ بمرادف له أشهر منه كما هنا لأن الخوف يرادف الوجل وهو أشهر منه، وبين أن سبب خوفه هو عدم أكلهم بقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ‏}‏‏.‏ ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أولئك الضيف الكرام الذين هم ملائكة بشروا إبراهيم بغلاف موصوف بالعلم ونظير ذلك قوله تعالى أيضًا في الذاريات‏:‏ ‏{‏قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ‏}‏ وهذا الغلام بين تعالى أنه هو إسحاق كما يوضح ذلك قوله في الذاريات ‏{‏فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ‏}‏ لأن كونها أقبلت في صرة أي صيحة وضجة وصكت وجهها أي لطمته قائلة إنها عجوز عقيم يدل على أن الولد المذكور هي أمه كما لا يخفى ويزيده إيضاحًا تصريحه تعالى ببشارتها هي بأنها تلده مصرحًا باسمه واسم ولده يعقوب وذلك في قوله تعالى في هود في القصة بعينها‏:‏ ‏{‏وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ‏ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ‏}‏ وأما الغلام الذي بشر به إبراهيم الموصوف بالحلم المذكور في الصافات في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ‏}‏ فهو إسماعيل وسترى إن شاء الله تعالى في سورة الصافات دلالة الآيات القرآنية على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق على وجه قاطع للنزاع، والغلام يطلق في لغة العرب على العبد وعلى الصغير الذي لم يبلغ وعلى الرجل البالغ ومن إطلاقه على البالغ قول علي رضي الله يوم النهروان‏:‏ أنا الغلام القرشي المؤتمن أبو حسين فاعلمن والحسن

وقول صفوان بن المعطل السلمي لحسان رضي الله عنهما‏:‏ تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر

وقول ليلى الأخيلية تمدح الحجاج بن يوسف‏:‏ إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها

وربما قالوا للأنثى غلامة ومنه قول أوس بن غلفاء الهجيمي يصف فرسًا‏:‏ ومركضة صريحي أبوها يهان لها الغلامة والغلام

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ‏}‏‏.‏ بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال‏:‏ إنه وقت البشرى بإسحاق مسه الكبر‏.‏ وصرح في هود بأن امرأته أيضًا قالت إنه شيخ كبير في قوله عنها‏:‏ ‏{‏وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً‏}‏ كما صرح عنها هي أنها وقت البشرى عجوز كبيرة السن وذلك كقوله في هود‏:‏ ‏{‏قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ‏}‏، وقوله في موضع آخر‏:‏ ‏{‏فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ‏}‏‏.‏ وبين في موضع آخر عن نبيه إبراهيم أنه وقت هبة الله له ولده إسماعيل أنه كبير السن أيضًا وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِمَ تُبَشِّرُونَ‏}‏‏.‏ الظاهر أن استفهام نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام للملائكة بقوله ‏{‏فَبِمَ تُبَشِّرُونَ‏}‏ استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى ويدل لذلك أنه تعالى ذكر أن ما وقع له وقع نظيره لامرأته حيث قالت ‏{‏وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا‏}‏ وقد بين تعالى أن ذلك الاستفهام لعجبها من ذلك الأمر الخارق للعادة في قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ‏}‏ ويدل له أيضًا وقوع مثله من نبي الله زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لأنه لما قال‏:‏ ‏{‏رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً‏}‏ ‏{‏فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ عجب من كمال قدرة الله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ‏}‏ وقوله ‏{‏فَبِمَ تُبَشِّرُونَ‏}‏ قرأه ابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بفتح النون مخففة وهي نون الرفع وقرأه نافع بكسر النون مخففة وهي نون الوقاية مع حذف ياء المتكلم لدلالة الكسرة عليها وقرأه ابن كثير بالنون المكسورة المشددة مع المد فعلى قراءة ابن كثير لم يحذف نون الرفع ولا المفعول به بل نون الرفع مدغمة في نون الوقاية وياء المتكلم هي المفعول به وعلى قراءة الجمهور فنون الرفع ثابتة والمفعول به محذوف على حد قول ابن مالك‏.‏

وحذف فضلة أجز إن لم يضر ** كحذف ما سيق جوابا أو حصر

وعلى قراءة نافع فنون الرفع محذوفة لاستثقال اجتماعها مع نون الوقاية‏.‏